فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (31):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَقَالُوا أَيْ قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: {لَوْلَا} أَيْ هَلَّا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، وَهُمَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ عَظِيمٍ يَعْنُونَ بِعِظَمِهِ كَثْرَةَ مَالِهِ وَعِظَمَ جَاهِهِ، وَعُلُوَّ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ، وَعَظِيمُ مَكَّةَ الَّذِي يُرِيدُونَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُُُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ يَجْتَمِعُ نَسَبُهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وَعَظِيمُ الطَّائِفِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسْولًا مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا.
ثُمَّ لَمَّا سَمِعُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ تَنَازَلُوا عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ إِرْسَالَ رُسُلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى اقْتِرَاحٍ آخَرَ، وَهُوَ اقْتِرَاحُ تَنْزِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَهَذَا الِاقْتِرَاحُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ؛ حَيْثُ يَجْعَلُونَ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي الدُّنْيَا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ النُّبُوَّةِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ.
وَلِذَا زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ أَهْلًا لِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةَ عُقُولِهِمْ، بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ النُّبُوَّةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ.
وَإِطْلَاقُ الرَّحْمَةِ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الدُّخَانِ: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ [44/ 5- 6]. وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْقَصَصِ: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ [28/ 86]. وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [21/ 107].
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ عَلَى النُّبُوَّةِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الْآيَةَ [18/ 65].
وَقَدَّمْنَا مَعَانِيَ إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الْآيَةَ [35/ 2].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ أَمْرَ مَعَايِشِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تَوَلَّى هُوَ- جَلَّ وَعَلَا- قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا، وَهَذَا رَفِيعًا وَهَذَا وَضِيعًا، وَهَذَا خَادِمًا وَهَذَا مَخْدُومًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ حُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُحَكِّمْهُمْ فِيهَا، بَلْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، فَكَيْفَ يُفَوِّضُ إِلَيْهِمْ أَمْرَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِيمَنْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ؟
فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَظُنُّهُ إِلَّا غَبِيٌّ جَاهِلٌ كَالْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [43/ 32] التَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّهُ مِنَ التَّسْخِيرِ.
وَمَعْنَى تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ- خِدْمَةُ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَعَمَلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا يَتَوَقَّفُ قِيَامُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ حِكْمَتِهِ- جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَقِيرًا مَعَ كَوْنِهِ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ، وَيَجْعَلَ هَذَا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُهَيِّئُ لَهُ دَرَاهِمَ يُؤَجِّرُ بِهَا ذَلِكَ الْفَقِيرَ الْقَوِيَّ، فَيَنْتَفِعُ الْقَوِيُّ بِدَرَاهِمِ الضَّعِيفِ، وَالضَّعِيفُ بِعَمَلِ الْقَوِيِّ؛ فَتَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَكَذَا.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ- جَاءَتْ كُلُّهَا مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَصُ شَرَفًا وَقَدْرًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ص فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} الْآيَةَ [38/ 8].
فَقَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا مَعْنَاهُ إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْي مِنْهُ، لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَشَرَفِهِ فِيهِمْ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِصَالِحٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [54/ 25].
فَقُلُوبُ الْكُفَّارِ مُتَشَابِهَةٌ، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ مُتَشَابِهَةً.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [2/ 118]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [51/ 53].
وَأَمَّا اقْتِرَاحُهُمْ إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ- فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [6/ 124]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُدَّثِّرِ: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [74/ 52]. أَيْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صُحُفٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ.
وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ.
وَأَمَّا إِنْكَارُهُ تَعَالَى اقْتِرَاحُ إِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِتَجِهِيلِهِمْ وَتَسْفِيهِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ- فَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [6/ 124] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَإِنْكَارًا لِمَقَالَتِهِمْ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [6/ 124].
ثُمَّ أَوعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [6/ 124].
وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي تَوَلَّى قِسْمَةَ مَعِيشَتِهِمْ بَيْنَهُمْ- فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [16/ 71]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [17/ 21]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [39/ 52]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [42/ 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [4/ 135].
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى حِكْمَةَ هَذَا التَّفَاضُلِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ- بِقَوْلِهِ هُنَا: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، يَعْنِي أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالِاهْتِدَاءَ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَنَالُهُ الْمُهْتَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُطَامِهَا.
وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [10/ 85]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [3/ 157].
مَسْأَلَةٌ:
دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الْآيَةَ [16/ 71] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ- عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا وَلَا تَحْوِيلَهَا، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [35/ 43].
وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ- إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ، وَنَزْعِ مِلْكِهِمُ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ- أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَتَمَتَّعُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، تَحْتَ سِتَارِ كَثِيرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقَّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ.
فَالطَّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا- هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ وَهَذَا غَنِيَ، وَقَدْ نَهَى- جَلَّ وَعَلَا- عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [4/ 135].
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
قَوْلُهُ: {لِبُيُوتِهِمْ} فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَرَأَهُ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: لِبُيُوتِهِمْ بِكَسْرِ الْبَاءِ لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ لِلْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {سُقُفًا} قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ- سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ الْمُرَادِ بِهِ الْجَمْعُ.
وَقَوْلُهُ: {وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ} قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ لَمَا.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنْ لَمَّا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَعِظَمَ شَأْنِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [43/ 32]- أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شِدَّةِ حَقَارَتِهَا، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَجَعَلَ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ لَوْلَا كَرَاهَتُنَا لِكَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْكُفْرِ، لَأَعْطَيْنَا زَخَارِفَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِلْكُفَّارِ.
وَلَكِنَّنَا لِعِلْمِنَا بِشِدَّةِ مَيْلِ الْقُلُوبِ إِلَى زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحُبِّهَا لَهَا، لَوْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْكُفَّارِ لَحَمَلَتِ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا، فَجَعَلْنَا فِي كُلٍّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ غَنِيًّا وَفَقِيرًا، وَأَشْرَكْنَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- اخْتِصَاصَ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [7/ 32].
فَقَوْلُهُ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ لَا نَصِيبَ لِلْكُفَّارِ الْبَتَّةَ فِي طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ.
فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا- صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ الْمَذْكُورُ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الِامْتِنَاعِ لِلْوُجُودِ الَّذِي هُوَ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً.
وَخُصُوصُ طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [7/ 32]- هُوَ الَّذِي أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [43/ 35].
وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْجُمْلَةِ فِي لَفْظِ الْمُتَّقِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ اتَّقَى الشِّرْكَ بِاللَّهِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْكُفَّارَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا- دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [2/ 126]. وَقَوْلِهِ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [31/ 24]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [10/ 23]. وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [10/ 69- 70]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إِنْعَامَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ لَيْسَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاجِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [68/ 44- 45]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [6/ 44- 45]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [7/ 95]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [19/ 75] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [3/ 178]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [22/ 44].
وَدَعْوَى الْكُفَّارِ أَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاهُمُ الْمَالَ وَنَعِيمَ الدُّنْيَا إِلَّا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا أَعْطَاهُمْ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ- قَدْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [23/ 55- 56]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [34/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [7/ 48]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [111/ 2].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [92/ 11]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [6/ 94]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18/ 36].
وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلْنَا أَيْ صَيَّرْنَا، وَقَوْلُهُ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مَعَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ وَعَلَى قِرَاءَةِ سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ جَمْعُ سَقْفٍ، وَسَقْفُ الْبَيْتِ مَعْرُوفٌ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ: فَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [22/ 5]- أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ. يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَعَارِجَ} الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ مِعْرَجٍ، بِلَا أَلْفٍ بَعْدِ الرَّاءِ.
وَالْمِعْرَجُ وَالْمِعْرَاجُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْرَجُ بِهَا أَيْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى الْعُلُوِّ.
وَقَوْلُهُ: {يَظْهَرُونَ}، أَيْ يَصْعَدُونَ وَيَرْتَفِعُونَ حَتَّى يَصِيرُوا عَلَى ظُهُورِ الْبُيُوتِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [18/ 97].
وَالسُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَالِاتِّكَاءُ مَعْرُوفٌ.
وَالْأَبْوَابُ جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْمَعَارِجَ الَّتِي هِيَ الْمَصَاعِدُ وَالْأَبْوَابُ وَالسُّرُرُ- كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: زُخْرُفًا- مَفْعُولٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْضُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعْضُهُ مِنْ زُخْرُفٍ، أَيْ ذَهَبٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ إِعْرَابَ قَوْلِهِ: وُزُخْرُفًا- عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ فِضَّةٍ، وَمِنْ زُخْرُفٍ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَانْتَصَبَ زُخْرُفًا.
وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ النَّحْوِ عَلَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ لَيْسَ مُطَّرِدًا وَلَا قِيَاسِيًّا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَعَلَيْهِ دَرَجَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ نَقْلًا، إِلَخْ.
وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ يَرَى اطِّرَادَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أُمِنَ فِيهِ اللَّبْسُ، كَمَا أَشَارَ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ:
وَابْنُ سُلَيْمَانَ اطِّرَادَهُ رَأَى ** إِنْ لَمْ يُخَفْ لَبْسٌ كَمِنْ زَيْدٍ نَأَى

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [43/ 35] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ لَمَا، فَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَإِنِ النَّافِيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَخُفِّفَتْ إِنْ فَقَلَّ الْعَمَلُ ** وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَإِنْ نَافِيَةٌ، وَلَمَّا حَرْفُ إِثْبَاتٍ بِمَعْنَى إِلَّا.
وَالْمَعْنَى: {وَمَا كُلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَ مِيمِ لَمَّا عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الطَّارِقِ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [86/ 4]- لُغَةُ بَنِي هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} الْآيَةَ [41/ 25].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [37/ 33].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [27/ 80].

.تفسير الآية رقم (43):

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ يَتَمَسَّكَ بِهَدْيِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي تَضْمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ- قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أَمَّا أَمْرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [18/ 27].

وَأَمَّا إِخْبَارُهُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْضَحَ ذَلِكَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [45/ 18]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [42/ 52- 53]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [23/ 73- 74]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [22/ 67]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [27/ 79]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَآيَةُ الزُّخْرُفِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [16/ 36].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/ 25]. وَذَلِكَ التَّوْحِيدُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ كُلُّ نَبِيِّ أُمَّتَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [11/ 50]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [11/ 61]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [11/ 61]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} الْآيَةَ [7/ 85]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ طه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي أَخَذَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [7/ 132- 133]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ [7/ 130].